البنا مفتيًا- إطلالة على فقه وفتاوى مؤسس جماعة الإخوان المسلمين

المؤلف: د. عصام تليمة11.03.2025
البنا مفتيًا- إطلالة على فقه وفتاوى مؤسس جماعة الإخوان المسلمين

قد يثير هذا العنوان دهشة العديد من الباحثين والمثقفين، فهل اشتهر حسن البنا بالاشتغال في ميدان الفتوى؟ المعروف عنه أنه داعية لامع، وخطيب مفوه، وكاتب بارع في المجال الدعوي، صاحب عبارات أنيقة وأفكار واسعة الانتشار، سواء اتفقت معه أو خالفته، فهل يُعرف عن البنا اهتمامه بالفتوى؟ وهل كان يمتلك المؤهلات اللازمة لذلك؟

من دواعي الأسف أن الكثير مما يصدر عن بعض المنتسبين إلى الدوائر العلمية في مجتمعاتنا يعتمد على النزعات الشخصية والميول العاطفية، سواء كانت حبًا أو بغضًا تجاه شخص معين، دون أن يكلف المتحدث أو الباحث نفسه عناء البحث الدقيق والمنصف، وبغض النظر عن موقف هذا أو ذاك من حسن البنا أو جماعته، خاصة فيما يتعلق بالمواقف السياسية، فإن التسرع في الحكم على البنا ونفي الصفة العلمية عنه يعد حكمًا متسرعًا وغير مدروس، وهو ما يرفضه البحث العلمي النزيه بشكل قاطع.

العطاء الفقهي لحسن البنا

من خلال تتبع مؤلفات وكتابات حسن البنا، نجد أنها قد تنوعت لتشمل عدة مجالات، وكان من بينها المجال الفقهي، سواء من خلال البحوث الفقهية المتعمقة أو الفتاوى الشرعية، فقد كتب في الفقه العديد من المقالات المتواصلة منذ عام 1932م، والتي كانت بمثابة النواة الأساسية لكتاب "فقه السنة" للشيخ سيد سابق -رحمه الله-، والذي قام بتأليف كتابه بناءً على اقتراح من حسن البنا، وذلك بعد مرور عشر سنوات على مقالات البنا في الفقه، ليسير سابق على نهجه، وتنوعت بحوث البنا الفقهية لتشمل فقه العبادات والمعاملات المختلفة.

أما فيما يتعلق بإنتاجه الفقهي في مجال الإفتاء، فمنذ أن بدأ الكتابة الصحفية المستمرة في عام 1932م وحتى آخر مجلة قام بإصدارها، وهي مجلة "الشهاب" في سنة 1948م، وفيما بينهما من مجلات أخرى، تولى البنا جانب الإفتاء، ففي مجلة "جريدة الإخوان المسلمين" الأسبوعية، كان يتولى مهمة الإفتاء بشكل أسبوعي، وكانت هذه الفتاوى موجزة ومختصرة، إلا في حالات استثنائية ومحدودة، عندما كان يرد عليه أحد الأشخاص مناقشًا في فتوى أصدرها، مما كان يضطره إلى الرد والتوضيح لما ذهب إليه في فتواه.

أما فتاواه ذات المساحة المتوسطة، فكانت تنشر في مجلة "الشهاب"، حيث كانت الإجابة تتسم بالاعتدال، فلا هي بالمختصرة المقتضبة، ولا هي بالمطولة المستفيضة، وكان يستدل عليها بالأدلة الشرعية المعتمدة لدى المفتين، وقد تنوعت موضوعات هذه الفتاوى، وكان البنا في ذلك الوقت قد بلغ الأربعين من عمره.

أما بالنسبة لفتاوى البنا الموسعة والمفصلة، فكانت تتناول موضوعات يكثر فيها الجدل والنقاش، وكانت تنشر في مجلات تهتم بهذه الموضوعات، ففي الفتاوى التي تحتاج إلى إسهاب وتفصيل، مثل فتواه عن الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وفتوى الذكر الجماعي والجهر به، وقد خلص في نهاية المطاف إلى جوازها مستندًا إلى أدلة مفصلة وواضحة، وأما المجلات التي كانت ذات طابع تفصيلي وتوضيحي بحكم خطتها ومنهجها، فكانت مجلة "المنار"، والتي تولى البنا رئاسة تحريرها بعد وفاة رشيد رضا، وقد صدر منها تحت رئاسته ستة أعداد، ثم تم مصادرتها، وذلك بعد أن عهد إليه ورثة رشيد رضا بإصدارها، وقد كتب له مقدمة العدد الأول منها فضيلة شيخ الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي، مشيدًا بعلمه وفقهه.

وهذا يدل على أننا أمام إنتاج فقهي غزير لحسن البنا، إذا ما قورن بسنوات الكتابة وتعددها، وكذلك سنوات عمره، فعلى مدار عشرين عامًا، يمكن جمع تراثه الفقهي في مجلد ضخم، يقارب الستمئة صفحة أو يزيد قليلًا، وهو ما يمكن الباحث والدارس من تكوين رأي علمي محايد ومنصف عنه، ويتضح من خلاله رؤيته الفقهية المتميزة.

لقد كتب البنا في الفقه مقالات متواصلة منذ عام 1932م، والتي كانت تعتبر النواة الأساسية لكتاب "فقه السنة" للشيخ سيد سابق -رحمه الله-، والذي قام بتأليف كتابه باقتراح من البنا، بعد مرور عشر سنوات على مقالات البنا.

المؤهلات التي كان يمتلكها البنا للإفتاء

وفيما يتعلق بمؤهلاته العلمية للإفتاء، فإن الشروط العلمية التي يشترط توافرها فيمن يتصدى للفتوى كانت متوافرة في شخصية حسن البنا، وخاصة في الفتاوى التي كانت موجهة لعامة الناس، والتي كانوا يعنون بها ويرسلونها إلى المجلات الإسلامية في ذلك الوقت بأسئلتهم واستفساراتهم، فهي مسائل كان يكثر طرحها في معظم المجلات آنذاك، والعلماء الذين كان يستفتيهم عامة الناس، وكان قليلًا جدًا من الفتاوى ما يمثل أسئلة النخبة أو ما يحتاج إلى اجتهاد جماعي، والذي مكانه الطبيعي المجامع الفقهية والجهات المعنية بذلك، ولم يكن البنا يتطرق إلى هذا النوع من الفتاوى، بل كان يحيلها إلى الجهات المختصة.

فالبنا هو خريج كلية دار العلوم المرموقة، وهي كلية متخصصة في دراسة الشريعة الإسلامية واللغة العربية وآدابها، بالإضافة إلى تمكنه من الاستشهاد بالقرآن الكريم حفظًا واستظهارًا واستدلالًا، فما يتطلبه المفتي في مثل هذه القضايا، إذا تأملناه، نجده حاضرًا بقوة في شخصية البنا، ومن يطلع على مقالاته التي كتبت في التفسير، والتي لا تخلو من آيات الأحكام، يجد حسه الفقهي متوقدًا ومنيرًا، فعلى الرغم من أنه لم يفسر القرآن الكريم كاملًا، بل لم يفسر سوى ثلاث سور كاملة فقط، وهي: الفاتحة، والحجرات، والمجادلة، ثم قام بتفسير آيات متفرقة من القرآن الكريم من سورة البقرة وغيرها من سور القرآن، ومع ذلك، فإن كل قارئ لهذه التفاسير يلمس الملكة الفقهية التي كان يتمتع بها البنا عند مروره بآيات الأحكام.

وكذلك في السنة النبوية المطهرة، فقد قام بشرح العديد من الأحاديث النبوية الشريفة، وكتب مقالات في مصطلح الحديث، مما يدل على تبحره في هذا العلم، وقد كان والده أحد أبرز علماء عصره في علم الحديث، وقد ذكر والده في مقدمة ترتيب وشرح مسند الإمام أحمد أنه كان ينوي كتابة مجلد يترجم فيه للإمام أحمد بن حنبل، ولكن الوقت لم يسعفه، وأنه عهد بهذه المهمة إلى ابنه حسن، مما يدل على ثقة الأب بقدرة ابنه العلمية في هذا المجال.

وكذلك بقية العلوم المطلوبة من المفتي، كالاطلاع الواسع على المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، بل وظهر في بعض فتاواه اطلاعه على مذهب الظاهرية، وتحديدًا كتاب "المحلى" لابن حزم، واطلع مبكرًا على كتاب "الموافقات" للإمام الشاطبي، وظهر ذلك في مواضع متعددة من رسائل البنا.

فتاوى غير مذهبية تراعي الخلاف المذهبي

كانت فتاوى البنا لا تعتمد مذهبًا فقهيًا محددًا بشكل قاطع، فلم يكن البنا متمذهبًا في فتاواه بالمعنى الضيق للتمذهب، ولم يكن ضد المذاهب الفقهية أو ممن يدعون إلى التنصل منها، بل كان يرى الجمع بين الأمرين، من خلال الاطلاع المذهبي الكبير على المذاهب الأربعة، والإفتاء بما يترجح لديه من الأدلة والبراهين، وقد كان متأثرًا في ذلك بمدرستين مهمتين نال منهما قسطًا وافرًا، وهما: مدرسة الشيخ محمد رشيد رضا، ومدرسة الشيخ محمود خطاب السبكي، وخاصة في كتابه الشهير: "الدين الخالص"، وقد كان كتابه يذكر المذاهب الأربعة بأدلتها، ويرجح في كثير من القضايا الرأي الذي يميل إليه، وإذا لم يرجح بين الصحيح والضعيف من الأدلة لكل مذهب، فإنه يكون أقرب إلى الترجيح.

ولا ننسى أن معلمه الأول كان والده المحدث والفقيه المعروف الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، الشهير بالساعاتي، والذي قام بتبويب مسند أحمد تبويبًا موضوعيًا وشرحه كذلك، والكثير من تبويبه وشرحه تتضح فيه النفحة الفقهية، فعنه تعلم البنا الابن وتأثر بطريقته في العرض وعدم التعصب المذهبي.

غير أن البنا تجنب الوقوع في بعض المزالق التي رأى شيوخه قد وقعوا فيها، فعلى الرغم من تلمذته الفقهية على يد الشيخ السبكي والشيخ رشيد رضا، إلا أنه خالفهما في اتجاهين منهجيين في فتاواه وفي عمله الدعوي بشكل عام، فقد كان الشيخ السبكي متوسعًا في مسألة البدعة، ويحكم على كثير من المسائل ببدعيتها، كما نرى ذلك في كتابه: "الدين الخالص"، وفي كتب الجمعية الشرعية مثل: "هذه دعوتنا" للشيخ عبد اللطيف مشتهري، وعندما توفي السبكي كتب البنا نعيًا له بعنوان: عزاء لآل خطاب، ذكر فيه مخالفته للسبكي في هذه المسألة، فقال: والخلاف بيننا أن الشيخ السبكي يرى مواجهة البدعة على الفور، ونحن نرى أنها تحتاج إلى التراخي، أي تحتاج إلى جهد يبذل ويصبر عليه.

وخالف رشيد رضا في فتاواه فيما يتعلق بصدامه مع الأزهر الشريف وشيوخه في عدد من المسائل، وخاصة في مسائل العقيدة والتقليد المذهبي، فلم يدخل البنا طرفًا في أي صراع فقهي في فتاوى أو مسائل علمية مع الأزهر، ولم أجد بعد استقرائي لكل فتاوى البنا وكل من انتقدوه في حياته أي هجوم حاد بسبب فتوى، وإن خالفه البعض في بعض المسائل والآراء، لكنه كان في باب النقاش الهادئ جدًا.

فتاوى تراعي الواقع

كما يلاحظ على معظم الفتاوى التي صدرت عن حسن البنا أنها كانت فتاوى تراعي الواقع من حيث الموضوعات ومن حيث طريقة العرض ومن حيث الخطاب الفقهي، فلم يستدع مسألة لا وجود لها في الواقع، ومن ذلك بحثه وفتواه الفقهية عن موضوع تحديد النسل، وقد كان ذلك في عام 1938م، مما جعل الشيخ القرضاوي يذكر هذه الفتوى في باب الفتوى المنضبطة، على الرغم من أن الحديث عنها كان مبكرًا جدًا، ولم يكن العالم العربي قد انشغل بالموضوع كما رأينا فيما بعد.

وكذلك بحثه الذي ألقاه في محاضرة في جمعية الشبان المسلمين في سنة 1929م، والتي كانت عن: "القمار ومضاره"، حيث جمع فيه بين عقلية الفقيه والداعية والمصلح الاجتماعي في آن واحد، في واحدة من أهم المحاضرات لداعية عن القمار والحديث عنه من جوانبه المختلفة.

النقد الفقهي والأصولي عند البنا

يضاف إلى مؤهلات البنا الفقهية للإفتاء لمحة مهمة لا يلتفت إليها من درسوا الرجل وفقهه، سواء من أتباعه أو خصومه، وهي امتلاك البنا ملكة النقد الفقهي والأصولي، فالرجل على الرغم من وفاته صغيرًا (42 عامًا) وعلى الرغم من قلة ما جمع له من تراث علمي، فإن ما توفر ونشر ينبئ عن عقلية نقدية واعية، وليس نقده لمجرد النقد، بل هو نقد من داخل تقدير هذا التراث وفي إطار تطويره وعدم الوقوف عند مسائل وقضايا التسليم التام بها سيوقعنا في مشكلات فكرية وفقهية.

ومن ذلك نقده لمعظم ما كتب ونشر عن البدعة، وقد كانت موضوعًا مثار نقاش دائم بين المشايخ، ففي فتوى له عن جواز الذكر الجماعي، وقد ناقشه أحد المشايخ رادًا عليه بأنه بدعة، رد البنا في جمل قصيرة لكنها تدل على اطلاع واسع على الموضوع ورؤية نقدية له، فكان من جوابه قوله:

(ولكني أحب أن يلاحظ: أن هذا البحث - بحث البدعة والسنة - من أعضل البحوث في أحكام الإسلام، لا يقطع فيه ببادئ الرأي، بل لا بد من نظر دقيق وإحكام تام في القواعد والتطبيق، وكم زلت فيه أقدام الفحول من السابقين واللاحقين.

ما تعريف البدعة الدقيق المضبوط؟ وما أنواعها؟ وما حكم ما له أصل من الدين وأُدِّيَ بكيفية لم يُنص عليها؟ وما حكم فعل ما تركه النبي، صلى الله عليه وسلم؟ وما الفرق الواضح بين البدعة الحقيقية والمصالح المرسلة؟ وهل لا يتغير حكم البدعة باختلاف الظروف والمقتضيات؟

كل هذه أبحاث تتناول البدعة والسنة خاض فيها العلماء وتشعبت آراؤهم فيها تشعبًا لا بد أنك تعلمه وتحس ثقل وطأته كما يحسه كل من عالج هذا الموضوع علاجًا صحيحًا.

وبعد هذا فهل يكفي الاتفاق على تحديد هذه الموازين لحسم الخلاف بين الناس في الحكم على ما يحدث من الأمور؟ إن ذلك كله لا يكفي فإن أنظار الناس تختلف في التطبيق؛ أكثر مما تختلف في وضع القواعد والأصول.

أرأيت يا أخي كيف أن هذا البحث مضلة الأقوام ومزلة العقول والأفهام والناس فيه بين مُفْرِط ومُفَرِّط، اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل والتسديد في القول والعمل.

لقد قرأت كثيرًا عن البدعة والسنة وقرأت ما كتب الشاطبي وابن الحاج وغيرهما، ولكن كل ذلك لم يلهم نفسي الطمأنينة إلى الحكم على كثير مما يسميه الناس بدعًا بهذه البدعية المطلقة وبهذا الوعيد الشديد).

لقد كتب البنا هذا الكلام وعمره لا يتجاوز (26) عامًا فدل على تمكن الرجل من الملكة الفقهية والنقد الفقهي والأصولي في سن مبكرة وامتلك جرأة الإعلان بهذا الرأي الذي ربما يخشى بعض الكبار من أهل العلم من إعلانه أو التصريح به.

فتاوى احتاط فيها البنا

وعلى الرغم من تيسير البنا في كثير من الفتاوى إلا أنه كان في قضايا المرأة أكثر تحفظًا واحتياطًا فقد كان يرى في توجهه الفقهي وكذلك في حياته الخاصة الاحتياط في قضايا المرأة وهو ما نراه في حوار مطول مع البنا في مجلة (النذير) عن المرأة ولباسها ثم في مقالاته في مجلة (المنار) عن المرأة المسلمة وقد كان له أكثر من مقال عن لباس المرأة وقد جمع مقالات (المنار) في كتيب: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وليته جمع مقالات مجلة النذير، ليتضح الكثير من رأي البنا كذلك، ولعلها لم تصله. وكذلك كان البنا في حياته الخاصة يميل للاحتياط الفقهي في قضايا المرأة كما نقل لي بعض بناته رحمهن الله.

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة